فرعون وكنوزه .. وسر ثراءه
.. إن الله سبحانه وتعالى أرسل سيدنا موسى عليه السلام
إلى فرعون وقومه كى يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد وليس عبادة فرداً من البشر
المخلوق فضلاً عن دعوته سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام بأن يطلب من فرعون أن
يترك بنى إسرائيل ويرفع عنهم العذاب المهين وما يقع عليهم من إذلال وهوان وسخرة ..
.. إلا أن الطغاة فى دمهم يجرى الاستبداد .. فلم يستجب
الفرعون لدعوة كليم الله موسى عليه السلام .. وراح الطاغية يحارب دعوته بل ويعذب
من يؤمن بالله الواحد ..
** وكان بنو إسرائيل يرون أن موسى عليه السلام هو المنقذ
والمُخَلص لهم مما هم فيه من ذل ومهانة واستبداد .. ولكن منهم أيضاً من كان حاقداً
على نبى الله موسى ( عليه السلام ) ويضمر له الحسد .. خاصة سدنة الحكم وبطانته
وحاشيته – كما هو فى كل زمان ومكان – خاصة المنتفعين من فرعون والمقربين من عرشه
ويحصدون من وراء هذا التقرب والزلفى الفرعونية على ما يريدونه من أموال وهدايا
وعطايا ومنافع لا تعطى إلا للخاصة .. وكان من بين هؤلاء رجل يُدعى قارون وهو إبن
عم سيدنا موسى عليه السلام ..ولكنه كان أحد المقربين لفرعون والمدافعين عنه وعن
مُلكه وإلوهيته .. وقد وقف قرون إلى جانب فرعون ضد دعوة سيدنا موسى عليه السلام ..
وقد اشتهر هذا القارون بالثراء الفاحش والثروة المالية الطائلة .. حتى صار مثلاً
لكل غنى وثرى مهما بلغ غناه أو ثراؤه فى أى مكان وزمان .
وقد تحدث
المفسرون عن سر ثراء قارون الملعون .. فذكر بعضهم أنه كان يقوم بعمليات كيميائية يقوم
من خلالها بتحويل النحاس إلى ذهب ويطرحه للبيع بأسعار عالية جمع من وراءها أموال
طائلة ..
وقال بعض المفسرين
أن قرون جمع ثروته من أعمال غير مشروعة مستغلاً قربه وعلاقته بالحاكم فرعون ووزيره
هامان الأمر الذى ساعده على نماء ثروته .. حيث تحصل على كثير من التسهيلات
والتصريحات التى كانت سبباً فى حجم هذه الثروات الطائلة ..
وذهب فريق
ثالث من المفسرين إلى القول : أن قارون كان يفعل ذلك كله ومستغلاً أيضاً لعلمه
الكيميائى فى نماء الثروة بالإضافة لعلاقاته المذكورة وأعماله الغير مشروعة .. حتى
نجد هذا القارون المتفرعن يقول عن ثروته وعن المال :
(
إنما أوتيته على علم عندى ) ( القصص 78 ) .
.. وإذا كان المفسرون قد اختلفوا فى سر ثراء قارون
وكيفية جمع أمواله ، فإنهم ولا شك اتفقوا على أن ثروته كانت كبيرة جداً ولم يكن
أحد يملك مثلها فى ذاك العصر إلا فرعون وهامان بل كان قارون أغنى الثلاثة ، لذلك
عندما أراد صاحب العزة سبحانه وتعالى أن يصف ثراء قارون الفاحش لم يذكر مقدار هذه
الثراء ولا كثرة الكنوز .. ولكنه سبحانه أشار فقط إلى مفاتيح الخزائن ..
فقال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ
أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ
الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ (78) القصص ) .. فإذا تصورنا أن هذه هى المفاتيح فكيف
تكون إذن الخزائن ؟ وكيف يكون حجم ما بداخلها ؟ - ترك لنا الله سبحانه وتعالى هذا
التصور والتخيل لتك الثروة الطائلة التى وهبها لقارون واغتر بها ولم يذكر فضل الله
عليه فيها ..
.. وقد ذكر بعض المفسرون أن هذه المفاتيح كانت مصنوعة من
الجلود وكانت تحمل على ستين بغلاً ويصعب على مجموعة من الرجال الأشداء حملها .
ولم تكن ثروة قارون هى ما في خزائنه من أموال فحسب بل
كان لديه أيضاً عدد كثير من الخيل
والمركبات والحرس .. وكانت مركباته مطعمه بالفضة والذهب وكانت سروج خيله مصنوعة من الجلد المزين بالذهب الخالص
وكان قصره عظيماً يشبه قصر فرعون فأعمدته
من الرخام المحلي بالذهب والفضة وأرضيته من الرخام ونوافذه من خشب الصندل المعطر
..
بخل
وغرور
وعلى الرغم من كل هذه النعم لم يشكر قارون ربه عز وجل علي ما أنعم عليه
من مال كثير وثروة طائلة ولم يعرف حق الله فى هذا المال فلم يخرج منه للفقراء
والمحتاجين ولم يسخره في نصرة دين الله
والوقوف بجانب نبي الله موسي عليه السلام
.. ولكنه فعل عكس ذلك وحمله ثراؤه علي أن يقف بجانب فرعون وهامان ضد موسي عليه
السلام لأنه أحس أن طبقة الأغنياء والأمراء هي أقرب إليه من طبقة البسطاء والفقراء
من قومه بني إسرائيل .. فنظر قارون إلي قومه نظرة احتقار واستهزاء .. واغتر بماله وثروته وراح
يتكبر علي موسي وبني إسرائيل وإلي جانب الغرور والكبر الذي اتصف
به قارون كان أيضاً بخيلاً شحيحاً يجهل فضيلة الإحسان للفقراء والمحتاجين ولا
يعرف قيمة العطف علي المساكين أعطاه هذا الثراء إحساساً بالعظمة وملأ قلبه
بالفرحة فصار يشعر بالقوة والغني والنفوذ وظن أنه خالد فى الدنيا وأن ماله مخلد معه
فانغمس فى ملذات الدنيا فكان يأكل أفضل الطعام وأشهاه ويرتدي أفخر
الثياب وأجملها ويستغل الفقراء فى خدمته ويسخرهم فى الأعمال الشاقة ولا يمنحهم
مما يستحقون إلا أقل القليل مستغلاً حاجتهم وفقرهم الشديد فكان يظلمهم ظلماً بيناً
ويعذبهم وينكل بهم وكان يفسد فى الأرض ولا يعينه أن يموت غيره جوعاً طالما
أن ثروته تنمو وماله يكثر وكان كلما زاد
المال وكثرت ثروته ازداد بخلاً وظلماً وكبراً وغروراً .
إيمان ... وجحود
وفاتنا أن نذكر لمن لا يعلم أن من مصدر
ثراء قارون .. أنه قد طلب من سيدنا موسى عليه السلام أن يدعو الله له أن يرزقه
مالاً كثيراً .. فرزقه الله علماً فريداً وهو علم الكيمياء استطاع به
تحويل التراب والنحاس إلى ذهب لذلك عندما قال له سيدنا موسى بأن هذا المال من عند
الله فقال له قارون : ( إنما أوتيته على علم عندي ) .
وعلى الرغم
من تلك الدعوة المؤمنة المباركة جحد قارون نعمة الله
عليه ،وزاد كبره وغروره يوماً بعد يوم وكان يخرج إلي الناس فى موكب مهيب إذ كان موكبه
أشهر المواكب عظمة وبهاء بعد موكب فرعون وكان إذا سار
به تحت أشعة الشمس تلألأ الذهب والنحاس والجواهر ..
وخطف وهجه أبصار الناس .. وفتنهم فتنه كبيرة لذلك
انقسم الناس أمام ثراء قارون وبهائه الشديد إلي قسمين قسم مؤمن بالله الواحد
يعلم أن ما فيه قارون امتحان من الله وابتلاء له .. وقسم انخدع بهذا الأمر وصار
يتمني أن يكون مثل قارون ويحكي لنا القرآن عن هذين
القسمين بأن قارون خرج ذات يوم فى موكبه يمر فى المدينة
فوقف الناس يشاهدون هذا الموكب ويتأملون أعمدة الموكب التي صنعت
من الذهب وستائره التي نسجت من الحرير .. وخيوله التي وضع
عليها سروج وأدوات مرصعة بالزبرجد والماس والياقوت ..
وحولها الحرس من كل جانب .. فقال بعض الناس : ( ياليت
لنا مثل ما أوتي قارون
إنه لذو حظ عظيم ) .. القصص 79
لقد انخدع هؤلاء بزينة قارون وبدأ الشك والجحود يتسرب إلي
نفوسهم وظن بعضهم أن قارون أفضل من موسي عليه السلام وأن الله لو كان يحب موسي حقاً لأعطاه مثلما أعطي
قارون ..وأمام هؤلاء يقف القسم الثاني من الناس وهم
المؤمنون الصادقون حقاً فنجدهم لا ينخدعون بهذه الزينة الكاذبة التي يعيش فيها قارون وقد عابوا
علي هؤلاء ماتمنوا ، وذكروهم بأن ما فيه قارون فتنه لا يجب أن يقعوا
فيها وأن ما عند الله من ثواب أفضل مما فيه قارون وقالوا لهم : ( ويلكم ثواب
الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون ) .. القصص 80
دعوة ... وعناد
لما رأي موسي عليه السلام أن ثراء قارون قد صار فتنه علي المؤمنين
من قومه أرسل إليه جماعة من المؤمنين لينصحوه ويذكروه بالله عز وجل ويبينوا له ما يجب
عليه فى هذا المال من تصدق وإنفاق علي الفقراء والمساكين من قومه
فذهب إليه هؤلاء المؤمنون العقلاء وقال له أحدهم يا قارون لقد خلق الله المال ولكن بشرط أن يكون
المتاع عبارة عن شكر لله المنعم .. فتعطي الفقراء وتصرف
الأموال فى طاعة الله تعالي وقال آخر : يا قارون لا تفسد فى الأرض بالظلم والبغي إن الله لا
يحب المفسدين كما لا يحب الفرحين .
ولكن ميت القلب قارون لم يقبل هذا
الكلام ولم يستجب لتلك النصائح وقال لهم : إن هذا المال ملكي وحدي .. كسبته
بنفسي وأوتيته بعلمي وجهدي وفكرى .. فما لكم
تفرضون علي الطرق التي أنفقه فيها
وتتحكمون فى أملاكى الخاصة ليس لأحدكم حق فى مالي هذا .
وقام الطاغية قارون بطرد المؤمنين من قصره مهدداً إياهم بالقتل فخرجوا وهم يعلمون
أن قارون أصبح مغروراً ونسي مصدر نعمته وأصبح مفتوناً بالمال
وأعماه الثراء عن الحكمة فى عطاء الله له ولم ينتبه إلي أن الله
تعالي قد أهلك من قبله أجيالاً كانت أشد منه قوة وأكثر مالاً وعاد هؤلاء العقلاء
إلي موسي عليه السلام وأخبروه بما فعله
معهم قارون فأخبرهم موسي عليه السلام أن كبر قارون
وغروره وبخله ذلك سيكون سبباً فى هلاكه ووجب على
المؤمنين ألا يفتتنوا بما هو فيه من نعم ومال لأن هذا المال اختبار من الله ويجب عليهم
أن يحمدوا الله تعالي ويتخلقوا بخلق الرضا والقناعة فذلك خير لهم من الدنيا
ومتاعها الزائل فآمن المؤمنون بكلام نبي الله
موسي عليه السلام وحمدوا الله عز وجل وشكروه
علي نعمه الكثيرة التي مَن بها عليهم وأيقنوا أن قارون لم ينجح فى
الامتحان الذي دخله بل رسب فيه لأنه رفض
أن يخرج زكاة ماله أو يعترف بفضل الله عليه .
وإلى هنا نكتفى بهذ
الجزء من القصة المثيرة التى كلما كتبت فيها سطراً أتخيل أننى أكتبها عن أحد أشخاص
هذا العصر والزمان وكأنها حدثت اليوم أو الأمس على أكثر تقدير .. ونسيت أنها قصة
وردت فى القرآن الكريم وحدثت من آلاف السنين .. لا لشئ .. ولكن ما أكثر قوارين –
قارون – عصرنا الحاضر ، ما أكثر المستفيدين من قربهم بأهل الحكم ويسعون فى الأرض فساداً
.. منتفشين كالطاووس على خلق الله .. ناسين أن هناك رباً قادراً على أن يخسف بهم
وبسلطانهم ومالهم الأرض كما خسف بأبيهم وسيدهم قارون ..
وإلى اللقاء فى
الجزء الثانى مع مؤامرة وإجرام قارون على سيدنا موسى عليه السلام وفشل تلك
المؤامرة .. وكيف خُسف بقارون وماله الأرض التى أخرجت مياهاً جوفية كثيرة حولت
مكان قصوره المخسوف إلى بحيرة من الماء لتكون شاهدة على أحد الطغاة آلا وهى بحيرة
قارون بالفيوم .
إلى لقاء جديد إن شاء الله ،،